أميركا وإسرائيل: وحدة الأهداف وتعدد الوسائل
برغماتية إبتزازية أخرى نراها في قانون "تايلور فورس" الذي تشهره الإدارة الأميركية تجاه السلطة الفلسطينية لكبح جماحها في تجاوز الإرادة العربية والإسرائيلية بنقل قضية الإعتراف بالدولة إلى المؤسسات الدولية الكبرى، حيث رحب نتينياهو بتوقيع ترامب على هذا القانون الذي بموجبه يحق للرئيس الأمريكي تجميد الأموال المخصصة للسلطة الوطنية الفلسطينية من أجل إرغامها على القبول بالوضع الجديد الذي ستسفر عنه "صفعة القرن" كما سماها عباس أبو مازن.
"أعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، وترك وراءه العرب ليُطفئوا النار التي أشعلها هذا الإعلان". هكذا وصفَ أحد مراكز التفكير الإستراتيجي الأميركي إعلان نقل سفارة الكيان الصهيوني نحو القدس (بحسب أليزابيت مارتو)، فيما تحاول مواقع البروبغندا الإسرائيلية اليوم توجيه الرأي العام نحو تمويه حقيقة صفقة القرن من خلال إلباسها ثوب "مسار السلام" مع الفلسطينيين المُتأسس على استئناف المفاوضات بين السلطة الوطنية الفلسطينية وقادة الكيان الصهيوني.
بمقابل هذه الدعاية التي تؤازرها وسائل الإعلام التابعة للدول المُنخرطة في المشروع الجديد، تنحو مراكز الدراسات الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية على حدٍ سواء نحو عهدٍ جديدٍ دشنّته صفقة القرن في المنطقة، والذي أصبح أكثر وضوحاً في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة. وتتمثّل أهم معالم هذه السياسة الجديدة في :
الطابع العقدي الإيديولوجي في العلاقة مع إسرائيل
الطابع القتصادي البرغماتي في العلاقة مع العرب
تجاوز الفلسطينيين كطرفٍ ثانٍ في الصراع
التركيز على دعم الدول الداعِمة للمشروع ومُعاقبة الدول الرافِضة
تكريس وضع مُريح لإسرائيل داخل أروقة الأمم المتحدة.
يتساءل ستيفن والت وجون ميرشايمر باستغرابٍ كبيرٍ في مؤلّفهما المُثير للجدل عن طبيعة دور اللوبي الإسرائيلي في السياسة الخارجية الأميركية، الذي لم يعد في نظر الباحثين مرتبطاً بالمصالح الأميركية، ف"الدعم المُتميّز المادي والدبلوماسي لإسرائيل الذي توفّره الولايات المتحدة لا يمكن تفسيره لا على المستوى الاستراتيجي أو الأخلاقي . بل إن مردّه في شكلٍ كبيرٍ إلى النفوذ السياسي للّوبي الإسرائيلي" . دعم غير مشروط بالمصالح الأميركية تُسهم في صوغه مجموعة كبيرة متنوّعة من المؤسّسات الإعلامية والاقتصادية والثقافية والسياسية، التي استطاعت أن توجّه السياسة الأميركية في المنطقة بشكلٍ يبدو واضحاً في التبنّي غير المشروط للأهداف الاستراتيجية التي تسعى إليها إسرائيل وهي تُطفئ شمعتها السبعين في أرض العرب.
تبدو معالِم سياسة ترامب في المنطقة بوجهين واضحين للعيان:
وجه برغماتي مُعلَن، يتعامل مع العرب بمنطق المصلحة الوطنية الأميركية، التي تنظر إلى دويلات الخليج كسلّةِ أموالٍ هشّة في قدرتها الأمنية والدفاعية، والتي تحتاج إلى الوجود الأميركي لدعمها حيوياً كي تظل على وجه الأرض. ويبدو واضحاً هذا المنطق في موضوع قانون جاستا الذي كان ورقة ابتزاز مهمّة مهَّدت في ما بعد للمؤتمر السعودي الأميركي في الرياض الذي أعلن عن صفقة القرن.
برغماتية ابتزازية أخرى نراها في قانون "تايلور فورس"الذي تُشهره الإدارة الأميركية تجاه السلطة الفلسطينية لكبحِ جماحها في تجاوز الإرادة العربية والإسرائيلية بنقل قضية الاعتراف بالدولة إلى المؤسّسات الدولية الكبرى، حيث رحَّب نتينياهو بتوقيع ترامب على هذا القانون الذي بموجبه يحقّ للرئيس الأميركي تجميد الأموال المُخصّصة للسلطة الوطنية الفلسطينية من أجل إرغامها على القبول بالوضع الجديد الذي ستُسفر عنه "صفعة القرن" كما سمّاها عباس أبو مازن.
سياسة تبادُل الأدوار في الملف الإيراني، ففي الوقت الذي تنسحب فيه أميركا من الاتفاق النووي الإيراني بمُباركةٍ إسرائيلية منقطعة النظير، وتلوّح بفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على الشعب الإيراني من أجل تغيير نظامه السياسي، تُسارِع إسرائيل إلى ضرب القواعد الإيرانية في سوريا، والتلويح بالقيام بضربات استراتيجية تشلّ القدرة الدفاعية والهجومية للجيش الإيراني.
وجه أيديولوجي توحَّدت فيه الأهداف الاستراتيجية بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، حيث ارتبطت طقوس الإعلان عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس بصَلوات حاخامات اليهود وقساوسة الطائفة المسيحية الصهيونية. الإعلان الجديد والذي جاء من دون حصول إجماع دولي، يبرز التحوّل الكبير الذي أعلنت عنه سياسة ترامب في المنطقة، والذي تجاوز الوجود الفلسطيني في ساحة الصراع.
التقرير الاستراتيجي الأمني الأميركي للسنة الماضية، يُعبِّر كما يرى ذلك المُحلّلون الإسرائيليون عن تقارُبٍ كبيرٍ بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول أهم قضايا المنطقة: الخطر الإيراني، ضعف تهديد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي للأمن الاقليمي، ضرورة تمتين العلاقات العربية الإسرائيلية تجاه الأخطار المشتركة.
خطاب السياسة الخارجية الأميركية اليوم يُعلن أن الولايات المتحدة تعتمد الرؤية الإسرائيلية في الصراع وتدافع عنها ، خصوصاً مع التوافق الكبير الذي أصبحت تُبديه دول عربية عدّة صراحة أو ضمناً في مواقفها من القضية الفلسطينية.
-صفقة القرن ونهاية دور الوساطة الأميركية -
إعلان القدس عاصمة لإسرائيل وتجاوز الفلسطينيين كطرفٍ في الصراع، واستبدالهم بالمحيط العربي المُتمثّل في دويلات الخليج ومصر، لا يمكن أن ينسجم كثيراً مع إمكانية الوساطة التي حدّدت تاريخاً طويلاً من العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. اعتبار القدس الموحّدة عاصمة أبدية لإسرائيل، يُعتَبر خرقاً واضحاً لقرار التقسيم الأممي، وتجاوزاً واضحاً للرؤية الدولية للقضية الفلسطينية.
اتفاق أوسلو الذي أصبح اليوم يُنظَر إليه في إسرائيل ككارثة، وقرارات الأمم المتحدة التي تعرقل المشروع الصهيوني الكامل، وجد في إدارة ترمب فرصة تاريخية لإعادة العدّاد إلى الصفر. أميركا اليوم لا تقدّم نفسها كوسيطٍ للسلام بين الطرفين، بقدر ما تقدّم نفسها فعلياً كطرفٍ في الصراع ضد أعداء الوجود الإسرائيلي، وتتعامل بمنطق العقاب مع كل رافضي المشروع الجديد لصفقة القرن.
وكما يوضح ذلك إعلان موقع ديبكا الإسرائيلي حول تفاصيل الخطة الجديدة، فالأميركيون والإسرائيليون لم يعودوا يبحثون في الحقيقة عن حلولٍ فعليةٍ للصراع مع الفلسطينيين، بقدر ما أصبحوا يبحثون عن حلفاء واضحين في المنطقة لتمرير مشروع الصفقة بدل الحل. ويجد الأميركيون في النظام السعودي القناة الأفضل لشرعَنة هذا التوجّه أمام المجتمع الدولي الذي لا ينظر الكثير من أطرافه بقناعةٍ كبيرةٍ لهذا المشروع الجديد.
تسعى إسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تجاوز قرارات الأمم المتحدة منذ سنة 1948، والتي كانت أساس بناء المَظلَمة اليهودية في العالم تجاه العرب في قضيتهم الأولى على الساحة الدولية. بموازاة ذلك، نرى على الساحة سعياً حثيثاً تنجرّ إليه دويلات الخليج وعلى رأسها السعودية إلى التطبيع مع إسرائيل وفق رؤية ثنائية للعلاقات مع الكيان الصهيوني، تنبني أساساً على المصالح المشتركة، حيث لا يخفي السعوديون تأفّفهم من ثقلِ الهمّ الفلسطيني على الرياض.
وفيما يُصرِّح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى في السعودية، يجتهد وليّ العهد السعودي بن سلمان في طمأنة اليهود ومن ورائهم أميركا بأن القضية الفلسطينية لم تعد من أولويات الرياض. تنسج اليوم مفارقة واضحة على مستوى خطاب السياسة الخارجية في العالم العربي، ليس فقط في مجريات الصراع، بل حتى في قضايا العرب في ما بينهم.
تهتمّ التقارير الاستراتيجية الإسرائيلية بالوضع العربي المُحيط بإسرائيل، وتعوِّل عليه كثيراً في توفير ااإستقرار المنشود، ويُقسِّم أحد الخُبراء اليهود في هذا السياق طبيعة الصراع مع إسرائيل إلى ثلاثة أبعاد أساسية:
بُعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
بُعد الصراع العربي الإسرائيلي
بُعد الصراع الإسلامي اليهودي
يخلُص التقرير إلى أن البُعد الفلسطيني الذي تتشابك فيه الأبعاد الثلاثة لا يمكن أن ينتج حلاً، فحماس وفتح والفصائل الفلسطينية حسب هذا التقسيم تمزج البُعد القومي بالإسلامي في الصراع، وهو ما يجعله مرتبطاً إلى حدٍ كبيرٍ بالصراع العقائدي الذي تغيب فيه قدرة الأميركيين والإسرائيليين على حدٍ سواء على تغيير قناعات أصحابه.
بمقابل ذلك يبدو الصراع العربي-الإسرائيلي اليوم قابلاً للتجاوز، فالعلاقات الثنائية الوشيكة بين إسرائيل والعرب كلاً على حدة، تُنذر بإنهاء هذا البُعد من خلال تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الكيان في مُعزَل عن القضية الفلسطينية، وكما عبَّر عن ذلك السعوديون فالصراع فلسطيني إسرائيلي و هو ليس عربياً إسرائيلياً.
العرب المُطبّعون لا يبحثون عن حلٍ القضية بقدر ما يبحثون عن بناء "علاقات طبيعية" مع الكيان، وفق صفقة القرن، التي يلاحظ فيها اهتمام غير مسبوق لليهود والأميركيين على حدٍ سواء بمستقبل الأنظمة العربية، ومسار الديمقراطية فيها.
الدور الأميركي في المنطقة العربية اليوم أعلن بشكلٍ صريحٍ عن سياساته المقبلة في المنطقة، والتي لازالت تغلّفها بعض الدعايات العربية المُتخوّفة من ردّة فعل الشارع بمسوح الخطاب التقليدي الذي أثار وجوده تناقضات واضحة ما بين وليّ عهد السعودية ووزير خارجيته.
الفلسطينيون في هذا السياق يشكّلون عقبة كأداء أمام السياسة الخارجية الأميركية الجديدة التي تعوّل على مصر في السيطرة على حماس في غزّة، وعلى العقوبات المالية المفروضة على الشعب الفلسطيني وعلى إيران لتطويع الشعوب، قبل الحكومات لكَبْحِ جماحِ المقاومة في زمن "إسرائيل الذهبي" مع الولايات المتحدة.