31/12/2018 خالدون
العراق وإشكالية المواطنة ((الكورد الفيلية نموذجاً))
لقد صاحب ولادة الدولة العراقية الحديثة في أوائل العقد الثالث من القرن المنصرم جملة من الولادات المشوَّهة والإشكاليات المستديمة التي عانى العراق منها ولا زال يعاني, ولعل الذين أسسوا وساهموا في صنع التاريخ لم يكن قد قرؤا الواقع العراقي بشكل صحيح أوأنهم متعمدين لما أسسوا لكي يورثوا هذا البلد أنهارا من الدماء وتاريخا من المأساة لم تنتهي فصولها بعد. فقد كانت أسباب هذه التشوهات نتيجة مخلفات قرون عديدة من الاحتلالات ومن الصراعات المقيته وردود الأفعال النابعة من خلفيات لا إنسانية وعنصرية ,ولعل من أهم تلك الإشكاليات والتشوهات هي المواطنة والهوية والانتماء .
هذه المفاهيم الهلامية في المجتمع و القاموس السياسي العراقيين , والتي يُنظر اليها من جانب واحد وهوجانب الوطن دون المواطن وأعني هنا بالوطن رغبة الحاكم ( جزافاً), بينما المواطنة هي ثنائية الوطن والمواطن كوحدة واحدة ,أي هي ثنائية الولاء والانتماء وليست أحادية الأخذ, كما أنها ثقافة الإعتراف بالآخر وقبوله والمساوات معه والإعتراف بحقوقه كاملة شريطة الولاء والحب والواجبات والحقوق, فليس في قوانين الامم المتحضرة ولا الأديان السماوية أن تكون المواطنة بيد الحاكم يلبسها للناس متى شاء وينزعها عنهم متى شاء ,لأن المواطنة تعتمد على وحدة الأصل الإنساني وليس العرقي أوالإثني , وفي ذات الوقت المواطنة تعني الولاء و الإنتماء للوطن والى تاريخه وتراثه الإنساني وليست هي ورقة أو وثيقة تعترف بالإنسان كمواطن لهذا البلد أو ذاك فهناك كم ٌ هائل على سبيل المثال من العراقيين الذين عاشوا في بلدان أوربية وعربية وحملوا وثائق تلك البدان إلا أن ولائهم بقي للعراق و قلوبهم تنبض بالحنين لوادي الرافدين , هؤلاء الذين حملوا الوطن هما ً يوميا ً, وجلبابا ً تجلببوا به هل يمكن أن ننزع عنهم هذه العراقية وهذه المواطنة,هؤلاء الذين رفضوا كل إنتماء ٍ إلا إنتماءُ العراق , فهل من الممكن أن نسميهم بتسميات أخرى. بالطبع لا. واصدق شاهدٍ على ذلك الكورد الفيلية هؤلاء العراقيون الأصلاء الذين ولدوا في أرض الرافدين وعاشوا فيها منذ الاف السنين, وأثرَّوا هذا البلد ثقافيا ً وحضاريا وإجتماعيا ً وإقتصاديا ,ً ولا زالوا يمارسون الدور ذاته لأنهم لا يعرفون حبا ً آخر غير العراق ولا بلدا آخر غيره, وقد لحق بهم الحيف والإضطهاد وصودرت أموالهم وزج بشبابهم في السجون وسُلبت أموالهم وهم مع ذلك يحملون الجنسية العراقية ويخدمون في الجيش العراقي وأغلبهم موظفون في الدولة العراقية , ومنهم من قدم دماءً سخية من أجل الوطن, وكان التسفير المكافأة الاكبر التي قدمت لهم , ولم يكن التسفير إلا نتيجة من نتائج التشوهات التي وجدت في بداية نشوء الدولة العراقية , وهو إفراز طبيعي لإشكالية المواطنة في العراق وهلامية مفهوم الانتماء والولاء لدى المشرع العراقي . لقد كان للكورد الفيلية تأثيرا كبيرا ً في المجتمع العراقي من خلال رجالاتهم الذين شكًّل البعض منهم موروثا ً وجدانيا ً لدى الشخصية العراقية , فمن منا لا يتذكر ((حجي راضي)) تلك الشخصية التي حفرت في وجدان الانسان العراقي صورة الطيبة البغدادية المتناهية , هذا الفنان العراقي الكبير عاش تحت سطوة سلب المواطنة والتشكيك بالولاء , فقد ذكر لي الفنان حمودي الحارثي جانب من المأساة التي عاشها هذا الفنان في ظل النظام الساقط , حينما أصدرت السلطات الصدامية قرار التسفير بحجة أن هؤلاء من أصول أيرانية , ولم يستثنى هذا الفنان إلا بقرار خاص ولكنه ظل مطعونا بوطنيته من قبل النظام هذا الرجل الذي حمل العراق أغنية ً بين شفتيه وحنينا بين أضالعه, وكرها للعنصرية والاستبداد والدكتاتورية وكان يذكر ذلك بين خاصته كم ذكر الفنان حمودي الحارثي, ولعل عملاق المثقفين العراقيين الاستاذ فخري كريم واحدا ً من الذين طالهم هذا الإضطهاد العرقي والعنصري,وكانت الأسباب واضحة وجلية وهي نبذ الدكتاتورية وحب العدالة والمجاهرة برفض النظام الصدامي الساقط , لأرتباط المواطنة بالحاكم وللتشوهات التي أوُجدت في التشريع العراقي والتي أعطت الحق للمقبور بسلب المواطنة والهوية . وهناك أعلام عراقية كبيرة من الكرد الفيلية كالفنان رضا علي صاحب اهم الأغاني التراثية العراقية والتي حفظتها الأجيال المتعاقبة في العراق. وغيرهم الكثير ,فحينما يكون صباح مرزة محمود (المرافق الخاص للمقبور صدام) وهو كردي فيلي عراقيا ً صميما ً وتنزع المواطنة عن الاستاذ فخري كريم ورضا علي ومهدي عبد الصاحب اللاعب العراقي المعروف والذي سجل هدف تاريخي في مرمى إيران في بطولة شباب آسيا والتي أُقيمت في طهران أيام نظام الشاه, اليست هذه تشوهات يجب معالجتهاجذريا. فكما أسقطت المواطنه عن هؤلاء فقط أسقطت عن مئات الآف من العراقيين على خلفيات طائفية وعنصرية وهي ايظا ً نتيجة ْ التشوهات الولادية لقانون الجنسية العراقية الذي ولد في سنة 1924م ولم يكن قبل ذلك قانونا ً للجنسية العراقية, هذا القانون الذي حدد شكل المواطن والمواطنة. هذا القانون الذي جعل الجواهري الشاعر العربي الكبير منزوع المواطنة , والفنان قاسم الملاك وفوزي مهدي وفنانة المقام العراقي السيدة فريدة مطعوني الولاء للوطن والفنان ياس خضر متهم بوطنيته وآخرين كثر لا يسع المقال لذكرهم , ولكن السؤال الأهم متى يعود الحق الى نصابه؟ ومتى تعالج هذه التشوهات علاجا ً شافيا ً ونهائيا ً؟ ومتى تكون المواطنة درجة واحدة في العراق ؟ ومتى ننتهي من هذه الإشكالية. نعم لقد خلفت الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية ميراثا ً من الأمراض والشوائب العديدة التي أصابة البيئة السياسية , والاجتماعية, والثقافية العراقية, مما تركت آثاراً سلبية سيئة على ثقافة المجتمع ولا زلنا نعاني منها ولعل ما ظهر من إتهامات وتشكيك بالمواطنة على شاشات الفضائيات بين السياسيين يعكس الصورة القاتمة لهذه الإشكالية, والتي أصبحت تهمة يستخدمها الآخرون للطعن بهوية خصومهم , وليتوسع الأمر فيما بعد الى شيوعها كثقافة للشارع وهذا هو الأخطر في تهديم الوطن , وحرمانه من طاقات كبيرة ومهمة هو بأمس الحاجة لها, لقد آن الآوان للتخلض من هذه الإشكالية ونبذها , لأن أي مشروع وطني لا يكتب له النجاح مالم يبنى على أسس وطنية سليمة , والمواطنة هي من أهم الدعامات لبناء دولة قوية ومتينة وديمقراطية فهي من الضرورات الحيوية لقيام المجتمع الحضاري الديمقراطي , ولتصحيح المسار الخاطئ التي إنتهجته الحكومات المتاعاقبة على حكم العراق ولأنصاف الذين خدموا العراق وأخلصوا له ,فلنحترم تشبثهم بالعراق ولإنتمائهم له . وما الخطوة التي قامت بها الحكومة العراقية مؤخرا بأرجاع الجنسية العراقية لمواطنيه من الكرد الفيلية إلإهي خطوة في الاتجاه الصحيح وتصحيح للمسار التاريخي الخاطئ لمفهوم المواطنة والانتماء,وإذا أردنا أن نبني الديمقراطية في العراق فعلينا أن نتخذ خطوات تصحيحية لأشكالات تاريخية صاحبت ولادة الدولة العراقية الحديثة فالديمقراطية هي عبارة عن مجموعة من القيم والمبادئ كالعدالة والمساواة والتسامح والتفاهم بين ابناء الوطن الواحد. كما أنّها وسيلة تطوير الحس الوطني والقدرات والمهارات التي تؤثر في مواجهة معوقات البناء الديمقراطي للمجتمع.فما دامت هناك إشكالية في مفصلية مهمة من مفاصل بناء المجتمع فالواجب على المشرعين وبناة الدول إزالة هذه الاشكالية من أجل الإنسان اولا ً والبلد ثانيا ً , فالعراقي هو من يوالي العراقي وينتمي اليه ويجمل موروثه الاجتماعي والثقافي والاجتماعي .
علاء الخطيب / كاتب وأكاديمي عراقي / لندن