31/12/2018 درب الالام
نظرة في كتاب القاضي زهير كاظم عبود (المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين)
المعروف عن القاضي الأستاذ زهير كاظم عبود اهتمامه الكبير بشؤون الأقليات العرقية والدينية في العراق. وها هو اليوم في كتابه الجديد يتناول مكوناً رئيسياً من مكونات الأمة الكوردية - الكورد الفيليين، وقضاياهم التي ما تزال تعاني للأسف من التسويف والإهمال بعد سقوط نظام البعث-صدام الشوفيني البائد في سنة 2003، مسلطاً الضوء على ما تعرضت له هذه الشريحة من مآسي وويلات من قبل هذا النظام خاصة إضافة إلى عدد من الأنظمة القمعية التي تعاقبت على حكم العراق، ومركزاً على البعد القانوني في هذا المجال. يعتبر كتاب القاضي زهير كاظم عبود (المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين) بلا شك إسهامة مهمة لتسليط الضوء على قضايا الكورد الفيليين. صدر الكتاب عن دار آراس للطباعة والنشر في أربيل - هولير، كوردستان العراق عام 2007 بـ 184 صفحة. وهو يتكون من مقدمة (ص 5-18) وثلاثة فصول: الأول: الكورد الفيليون (ص 19-65)، الثاني: المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين (ص 67-112)، الثالث: أين صارت حقوق الكورد الفيليين؟ (ص 113-183)
يفتتح المؤلف مقدمة كتابه بالتحدث عن قضية أساسية تتعلق بالحقوق والالتزامات القانونية والأخلاقية مؤكداً على أنّ العبرة لا تكمن في معرفة مثل هذه الحقوق التي هي جلية وعادلة بل في إنكارها من قبل البعض، مشيراً إلى ضرورة سنّ قوانين وتشريعات لحمايتها، ص 5. ولا بدّ لمثل هذه التشريعات أنْ ترفع الحيف والعسف والقهر والتهميش الموجه ضد الكورد الفيليين كمواطنين عراقيين. وكما يشير الكاتب فإنّ الويلات التي تعرضوا لها قد تمّ (التعتيم عليها، ص 7)، كما تمت المماطلة في إقرار حقوقهم، مطالباً بضمانات لها (وفقاً لما أقره القانون العراقي الأساس والعهود الدولية، ص 9). ولكننا نرى للأسف أنّ العراق الجديد يتردد في إقرار ما هو ضروري قانونياً لحماية هذه الحقوق وترجمتها إلى الواقع الملموس.
وإذا كان عطاء الكورد الفيليين كبيراً ومتجدداً في الحركة الوطنية العراقية والكوردية، ص 6 بدءاً من مساهماتهم في ثورة العشرين، ص 13، ودفاعهم عن جمهورية 1958، ومقاومة عكد الأكراد لانقلابيي 8 شباط الدمويين عام 1963، ص 17-18 وتضحياتهم في معارضة النظام البائد والمحن الجسيمة التي تعرضوا لها، ص 6، 13، 16، ودورهم الأساسي في (الاقتصاد العراقي وحركة التجارة العراقية والحركة العمالية ، ص 14)، فهم ما يزالون اليوم (يتطلعون لحياة وكرامة تليق بالإنسان، ص 16).
ويؤكد الكاتب في مقدمته على أنّ القضية الكوردية واحدة (من بين أهم القضايا العراقية، ص 11) حيث عانى الشعب الكوردي ومنه الكورد الفيليون من شتى الويلات من قبل الحكومات العراقية، وخاصة النظام البائد، وما تمخض ذلك حتى اليوم عن نتائج مأساوية جمة لحملات الأنفال والأسلحة الكيمياوية في حلبجة والتعريب والتسفيير والتغييب ومختبرات الموت البيولوجية. وأنّ الكورد الفيليين الذين عانوا من محاولات إجبارهم لتغيير قوميتهم بقوا متمسكين بها. لقد تعرضوا كمواطنين عراقيين إلى عمليات تهجير كبرى واحتجاز وتعذيب ونفي، ص 7، وتدمير في المختبرات البيولوجية واختفاء 10000 شاب لم يعرف مصيره لحد اليوم، ومصادرة مستمسكاتهم ووثائقهم العراقية الرسمية وأموالهم المنقولة وغير المنقولة واستباحة حياتهم، ص 9، وحيث دفعوا نحو حقول الألغام وتحت القصف الجوي باتجاه الحدود، ثم الحياة الإنسانية المزرية في مخيمات إيران. ويستعرض المؤلف تلك الأفعال المشينة للطغمة البائدة والتي تتعارض واللوائح الدولية التي تنصّ على أنّ (جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولكل إنسان الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه... وأنّ الجنسية حق من حقوق الإنسان، لا يجوز تجريد الإنسان منها... هذا إضافة إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ص 10). ويعتبر المؤلف بحق إنّ هذا التجريد من قبل السلطات الشوفينية الغاشمة حالة غريبة وفريدة في التاريخ، ص 11.
وإذا انتقلنا إلى الفصل الأول فسنجد المؤلف يقدم عرضاً تعريفياً عاماً عن الكورد الفيليين، تسميتهم وتاريخهم وانتسابهم للأمة الكوردية، ص 19، وذلك من خلال الاستعانة بعدد من المصادر والدراسات لمؤلفين كلاسيكيين كالإصطخري من القرن العاشر وياقوت الحموي من القرن الثالث عشر، وكتّاب معاصرين كعباس العزاوي، طه باقر، نجم سلمان مهدي الفيلي، زهير عبد الملك، مجيد جعفر، هادي حافظ قيتولي، مهدي كاكه ئي، منذر الفضل، برهان شاوي، مؤيد عبد الستار، إضافة إلى س . جي . أدموندز، والتر هينتس، لونكريك، جورج ن . كرزن، مع الإشارة في ذات الوقت إلى الندوة العالمية التي نظمتها جامعة آدم ميتسكيفيتش في بوزنان (بولندا) حول قضايا الكورد وكوردستان في 20-21 تشرين الأول 2003 وبحث د. مجيد جعفر، ص 46(صدر كتاب عن مواد هذه الندوة تحت إشراف كاتب هذه السطور سنة 2004).
ويتناول هذا الفصل أصل الكورد الفيليين، ص 33، 44، ونسبهم ولهجتهم، ص 27- 29وتاريخهم وعشائرهم، ص 39، وأماكن سكناهم في (أقصى الجنوب من كوردستان، ص 38-39) وسكناهم الكثيف في بغداد، ص 47 وعدد من المدن العراقية، ومنها الواقعة إلى الشرق من نهر دجلة، هذا إضافة إلى عرضه لأصل كلمة فيلي (Peli) اسم الملك العيلامي، ص 25 وتعدد تفسيرات هذا المصطلح ، ص 25-27. ثم يعرج الكاتب على عراقية الكورد الفيليين ، ص 21 كـ(مواطنين عراقيين بالولادة أباً عن جد وقسم ضئيل منهم بالتجنس، وهم على مذهب أهل البيت الجعفري، ص 38، 48)، رافضاً التشكيك في قوميتهم الكوردية، ص 21. ويوضح المؤلف ما قام به النظام الشوفيني البائد من محاولات لإجبار الكورد الفيليين والشبك على تغيير قوميتهم، ص 20، مستعرضاً ذكرياته الشخصية معهما ، ص 20-21. وبقدر ما يتحدث الكاتب عما قام به الفكر البعثي النازي، ص 50-51 من (تغييب في قضية القوميات والمذاهب في العراق، ص 41)، فإنّه يستعرض الأذى المزدوج الذي لحق بالكورد الفيليين كونهم كورداً وشيعة، ص 51-53، واضطهادهم ومعاناتهم الإنسانية في التهجير، ص 62-65 على يد النظام البعثي بعد حادثة جامعة المستنصرية عام 1980، ص 59، مضيفاً ما قام به النظام الإيراني من أفعال ضد الكورد، ص 40. ثم يتحدث المؤلف في هذا الفصل أيضاً عن الدور الوطني للكورد الفيليين ومقاومتهم للنظام البائد، ص 58، 64، مختتماً إياه بالتذكير بالتوصية التاسعة لبيان مؤتمر المعارضة العراقية سنة 2002 التي أدانت (التهجير القسري والتطهير العرقي واستخدام الأسلحة الكيمياوية وتغيير الهوية القومية وما جرى من تغيير في الواقع القومي لمناطق كركوك ومخمور وسنجار والشيخان وزمار ومندلي وغيرها، ص 65)، ودعوة هذا المؤتمر ( لعودة الكورد الفيليين والمهجرين وإعادة مواطنتهم وحقوقهم ومستمسكاتهم وأملاكهم، وإلغاء جميع الإجراءات الإدارية التي قام بها النظام منذ سنة 1968 والتي استهدفت تغيير الواقع الديموغرافي في كوردستان العراق، ص 65). فما الذي تحقق من ذلك؟
أما الفصل الثاني فيتناول المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين (عنوان الكتاب). المؤلف كقاضٍ وقانوني يستعرض في هذا الفصل أولاً الجرائم التي تعرض لها الكورد الفيليون على يد النظام الصدامي العنصري البائد كـ(الإبعاد والنفي والحجز والإخفاء والتعذيب الجسدي والنفسي والإعدامات خارج إطار القضاء والمحاكم الصورية والتغييب ومصادرة الأموال وسلب المستمسكات والسندات الرسمية، والتهجير، بما في ذلك فصل العوائل وتسفير الزوجة المطلقة ... ، ص 68، 77، 82، 107)، والتي جاءت مخالفة لكل الأعراف والمعاهدات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، إلى جانب إسقاط الجنسية العراقية عنهم وإبعادهم إلى إيران، التي رفضت بدورها منحهم الجنسية الإيرانية لكونهم عراقيين، ص 82). ويعزز المؤلف توثيقه لمثل هذه الأمور من خلال التذكير بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 896 لسنة 1954 الذي ألزم الدول بـ(الامتناع عن إسقاط الجنسية، ص 83). ويؤكد المؤلف بأنّ هذه الجرائم التي ارتكبت بحق الكورد الفيليين تعتبر من أخطر الجرائم ضد الإنسانية، ص 69-70، 72، وتنطبق عليها (معاهدة معاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية لعام 1948، ص 70). ثم يتوقف عند قانون المحكمة الجنائية العراقية رقم 1 لسنة 2003 وقانون أصول المحاكمات الجزائية لعام 1971، ص 71-72 وقانون أصول المحاكمات العسكرية لسنة 1941 وقانون العقوبات العسكري لسنة 1940، ص 73 وسريان أحكامها على المجرمين، إضافة إلى قانون منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 واتفاقية جنيف لعام 1949، ص 103. ويستعرض الكاتب الجرائم التي شملها قانون المحكمة الجنائية العراقية وهي (جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، انتهاكات القوانين، ص 99)، مركزاً على المعيار القانوني الذي (لا يعفى الدكتاتور البائد صدام باعتباره كان الرئيس الأعلى الذي يصدر الأوامر عن الجرائم المرتكبة بحق الكورد الفيليين وغيرها من الجرائم الكبرى ... ، ص 74-75)، مع تأكيده على (عدم سقوط تلك الجرائم بالتقادم بالنظر لخطورتها وكونها تشكل تهديداً كبيراً للإنسانية) وفقاً للقانون الدولي المتمثل بنظام المحكمة الجنائية الدولية وكذلك المحكمة الجنائية العراقية، ص75، 111-112).
ويمهد المؤلف في مقدمة كتابه وفصليه إلى تساؤله في الفصل الثالث: أين صارت حقوق الكورد الفيليين؟ وهو تساؤل مشروع لمعرفة ما الذي تحقق بعد سقوط النظام البائد وقيام العراق الجديد بعد 9 نيسان 2003، مجيباً على تساؤله بأنّ قضايا الكورد الفيليين ما تزال معلقة وضائعة وتعاني من الالتفاف والتسويف، إضافة إلى خذلانهم، ص 113، 115، 117) رغم تعرضهم أمام العالم (لأبشع عملية استلاب إنساني سجلها التاريخ الحديث، ص 113). هذا الصمت واللاأبالية والتجاهل لمآسيهم الذي أطبق على الإعلام العربي ودول الجوار والمجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، ص 114، 120، 127.
ويشير المؤلف إلى اعتزاز الكورد الفيليين بكورديتهم، ص 166رغم هذه المعاناة، ص 172 ، التي هي جزء من المعاناة الكيرى للأمة الكوردية، التي تحملت ما لم تتحمله أمم أخرى من أساليب فاشية عنصرية وجرائم إبادة جماعية ، ص 119، ص 129. ويخلص المؤلف إلى القول بأنّه ورغم ما ارتكب من جرائم بحق الكورد الفيليين على يد النظام البائد فإنّ هذا الشكل من أشكال الحكم (قد فشل في القضاء على العلاقة الأزلية بين العراق والكورد الفيليين، ص 182). ويفرد الكاتب في هذا الفصل مساحة مهمة لقضية الجنسية وشهادة الجنسية وما يسمى بالتبعية العثمانية من فئة أ والإيرانية من فئة ب، ص 114، 140، معرجاً على قانون الجنسية الملكي رقم 42 لسنة 1924 والدستور العراقي لعام 1925، ص 139. ويسخر مما جاء في بعض مواد تلك التشريعات من تمييز عرقي وطائفي وشوفيني، ص 145 باعتبار (عرب وأكراد الجنوب والفرات الأوسط بمن فيهم الأكراد الفيلية من التبعية اِلإيرانية المشكوك في ولائهم، بينما المهاجرون الهنود والباكستانيون والأرمن والأتراك والعرب الذين صاروا تحت لواء الجنسية العثمانية مواطنون لا يشك في ولائهم، ص 142). ثمّ يشير إلى الإفراط الطائفي الشوفيني في قانون الجنسي البعثي رقم 43/1963، ص 146 و(التسفيرات التي شملت حتى المتمتعين بشهادة الجنسية العراقية من نوع أ، ص 149). ويصيب المؤلف عندما يجد شهادة الجنسية فريدة من نوعها في (معيارها الشاذ عالمياً إذْ لم يسبق للدول الحديثة التي تحترم نفسها أن أخذت به في تصنيف مواطنيها، ص 144-145). هذه الشهادة التي ما يزال العمل سارياً بها اليوم وبشكل مخجل في مؤسسات العراق الجديد. وأرى أنّ الكثير من الأخيار اليوم يتفقون مع المؤلف في ندائه لتمزيق شهادات الجنسية لأنّها ليست معياراً للمواطنة العراقية، ص 153.
ويدعو المؤلف في هذا الفصل إلى عرض كل قضايا الكورد الفيليين على المحكمة الجنائية العراقية، ص 118. ويدرج في هذا الصدد رسالته (ص 121) الموجهة إلى رئيس المحكمة الجنائية العراقية العليا القاضي عارف عبد الرزاق شاهين المتعلقة بالكورد الفيليين من أجل (توثيق الحقيقة والتاريخ، ص 125) وضرورة تحديد المسؤولية القانونية للجرائم التي ارتكبت بحقهم ومن أجل إحقاق العدالة وإنصافهم. ثم يخاطب وزير الداخلية العراقي في رسالة أخرى في هذا المجال، ص 131.
وأتساءل بدوري مع المؤلف عما تحقق اليوم؟ إننا ما نزال نسمع عدداً من الأصوات النافذة وغيرها وهي تردد مصطلحات النظام البائد كالتفريس والتبعية الإيرانية. إنّه جهل (من يفتقد لمعرفة أصول التاريخ العراقي، ص 170)، كما يكتب المؤلف، أو هو التجاهل المعبر عن مواقف شوفينية دفينة. وإذ أشارت عدد من مواد الدستور العراقي الدائم لعام 2005 إلى بناء الدولة الديمقراطي والفيدرالي التي ترفع لواء المساواة والعدالة في المواطنة والحقوق فإنّه وفي الجانب العملي ما يزال عدد من القرارات والقوانين التمييزية الماضية سارياً. وما يزال التلكؤ والتسويف يرافق أعمال اللجان المتعلقة بقوانين إعادة الملكية وحقوق الكورد الفيليين، ومنها الجنسية، وما يزال التردد يصيب قرارات الحكومة وعمل مجلس النواب في هذا الباب، وما تزال شهادة الجنسية مطلوبة. هذا إذا أضفنا إلى ما يتعرض له الكورد الفيليون وغيرهم من أبناء الشعب العراقي من أعمال إرهابية حاقدة تمثلت في تفجيرات الصدرية والشورجة وشارع المتنبي وغيرها.
إنّ حل قضايا الكورد الفيليين هو مع الدولة العراقية وأنظمتها الشمولية، وخاصة النظام البعثي الصدامي البائد. ويتطلب ذلك الاعتذار لهم ولكل الضحايا والمظلومين من العراقيين. ويتطلب ذلك أيضاً إعادة حقوق الكورد الفيليين ومواطنتهم وأملاكهم ومحاكمة من أجرم بحقهم. إنّ العدالة ومساواة المواطنين قضية تكفلها كل الشرائع الدولية، الدينية منها والوضعية. ولا بدّ للعدالة أن تنصف الكورد الفيليين، هؤلاء الذين عبر المؤلف عن تضحياتهم الكبيرة كونهم شكلوا من (معدن العراق الصلب صلابتهم ومن رحم الأمة الكوردية التي فرض عليها التمزق والتفرق، ص 166)، داعياً أنْ يكون العراق وطناً للجميع بحق.
وأخيراً أقدم تحيتي وشكري العميقين للقاضي الأستاذ زهير كاظم عبود، لهذا القلم العراقي الصديق والوفي لمبادئه في الموقف الثابت من حقوق الكورد الفيليين ومكونات الشعب العراقي الأخرى العادلة، ولمفرداته المليئة بالقيم الإنسانية الخيرة وبالإحساس المرهف لكل ما هو صادق ومنصف. وتحية أيضاً لكل قلم موضوعي ينصف المظلومين الطامحين بالعدالة في العراق الجديد اليوم.